الانسانية قبل الطب .. الدكتور خالد انموذج ..


الانسانية قبل الطب .. الدكتور خالد انموذج ..

بقلم عبد العزيز البدوي

كان الطبيب الأمريكي جيم أوكونيل يجوب شوارع وأزقة مدينة بوسطن، وحواريها يوميا بحثا عن الفقراء والمشردين، ممن تقطعت بهم السبل، ووقف الفقر حائلاً دون حصولهم على الرعاية الطبية اللازمة، ليقدم لهم العون اللازم، ويتكفل بقضاء حوائجهم الضرورية، ضاربا أروع الأمثلة في الإنسانية، التي يفتقر لها غالبية أطباء العالم المعاصر .

الدكتور أوكونيل لم يمنعه منصبه الرفيع في كلية الطب بجامعة هارفارد، أن يمارس إنسانيته في الشوارع، حتى شهادة الدكتوراه المرموقة، لم تولد لديه شعورا بالاستعلاء على البسطاء في ولاية يقطنها ملايين، أغلبيتهم بسطاء، ومحدودي الدخل، الأمر الذي جعل أوكونيل واحدا من أشهر النماذج الإنسانية في مهنة الطب، إن لم يكن أشهرها على الإطلاق .

في العالم العربي، واليمن خصوصا لطالما انتظرنا جيم أوكونيل (النسخة العربية)، ورغم أن الكثيرين يرون أنه من المستحيل ظهور هذه النسخة الفريدة من الأطباء، في بلد تُصنف فيه مهنة الطب كنشاط تجاري لا إنساني، إلا أن الظروف الأليمة، وضنك العيش المحيط بالبلاد من شتى الإتجاهات، مثلت مخاضات لانبلاج عصر جيم أوكونيل اليمن، قادما من أعماق إقليم تهامة بسرعة البرق، ليقود ثورة على كل مظاهر التشوه في هذه المهنة الجليلة، وفقا لإمكانياته، وجهوده الشخصية كطبيب،ومواطن ينتمي إلى جغرافيا شحيحة الموارد .

إنه الدكتور اليمني/خالد سهيل إبن محافظة حجة، رئيس هيئة مشفى الثورة العام بمحافظة الحديدة .

ماجستير في الصحة العامة من كلية الطب – جامعة حضرموت .

تدرج في سلم الوظيفة بعصامية نموذجية،إلى أن أعتلى هرم هيئة مشفى الثورة العام بمحافظة الحديدة في مطلع العام 2012،لتبدأ ثورة التصحيح داخل واحدا من أهم مشفيات إقليم تهامة،وفي مدينة مشتعلة بالصراع بين أطراف الأزمة اليمنية القائمة منذ أواخر العام 2014 .

حققت هيئة مشفى الثورة في عهدة سلسلة كبيرة من الإنجازات على مدار سبع سنوات، سأكتفي هنا بسرد بضع منها خلال العام المنصرم على سبيل القصر لا الحصر، إذ لايتسع المجال للإحاطة بكل الإنجازات :

باشر الرجل عمله باستقطاب كوادر كفؤة إلى هيئة المشفى للإرتقاء بالمهنة، وعمم المبدأ الإنساني لدى كافة طاقم المشفى، في تعاملهم مع كافة النزلاء، والزاور، وساهم بجهوده الشخصية في استحداث أقسام طبية متطورة تضاهي أرقى المشفيات داخل البلد، أبرزها افتتاح قسم الأشعة المقطعية (التصوير الطبقي المحوري)وتدشين العمل بها، وعلى صعيد الانضباط، والمهنية دشنت الهيئة نظام البصمة الالكترونية، لتحقيق الانضباط الوظيفي، ومنع التسيب داخل المشفى، وعلى الصعيد العلمي تم  افتتاح قسم دراسة الماجستير المهني لمساقي طب النساء، والولادة وطب الاطفال، وهي خطوة نهضوية تنموية على الصعيدين العلمي، والمهني، كما تولت هيئته تجهيز وتنفيذ مخيم طبي جراحي مجاني بمديرية الجراحي محافظة الحديدة، عاد بالنفع على مئات المرضى من أبناء المديرية،كذلك

عقد اتفاقية مع منظمة اليونيسف لتحسين مستوى العناية بالحوامل،وحديثي الولادة عبر دعم مركز الطوارئ التوليدية،وتقديم الخدمات المجانية للـــولادات الطبيعية والعمليات القيصرية،ومضاعفات الحمل،والولادة ورعاية حديثي الولادة والعناية المركزة للأطفال،وتواترت عمليات التحديث في الهيئة،ليصبح المشفى الأفضل في الجمهورية بحلول العام 2019 .

في اليمن تعودنا على الأطباء مرابطين داخل عياداتهم الخاصة في أغلب الأوقات،وتحت معدلات تكييف عالية ينتظرون المرضى القادمين إليهم بتوصيات،وتوجيهات من السماسرة المتواجدين في أروقة المشفيات،ليأخذوا منهم مبالغ باهظة ثمنا للدواء،بيد أن الدكتور خالد ورفاقه في الهيئة كان لهم رأي آخر،إذ ركزوا على البعد الإنساني الملازم للطب،ووفروا الدواء بالمجان،أو بمقابل  معقول،يراعي ظروف العامة،ويخفف عنهم شزرا من عذابات المعيشة،وهذا لعمري أرفع مراتب الإنسانية في العالم المعاصر .

يجوب الرجل أقسام المشفى في الأوقات الرسمية،وغير الرسمية لمتابعة حالات المرضى،وتسهيل الإجراءات أمامهم،من أجل حصولهم على الرعاية الطبية الكاملة،كما أنه خصصص جل وقته،وإمكانياته المادية لتغطية نفقات علاج المعسرين القادمين إلى المشفى من مختلف المحافظات اليمنية،وما أكثر المعسرين في بلد تتقاذفه الصراعات،والحروب منذ سنوات عجاف .

يقول جيم أوكونيل : “الطبيب الإنسان هو من يبحث عمن تقطعت بهم السبل لينتشلهم من ألم المرض،ويرسم على محياهم معالم الامتنان” وجهود “أوكونيل اليمن” مطابقة تماما لهذه المقولة العظيمة،فالدكتور خالد لطالما سخر إمكانياته لدعم ومساندة طبقة البروليتاريا في اليمن،ولعل

أبرز مايميز الرجل هو إنسانيته المتناهية مع المرضى،إذ يزور نزلاء المشفى،ويستمع إلى شكاويهم،ويتلمس آلامهم بتواضع جم،وينسج معهم خيوط لوشيجة راسخة،يكلؤها الحب،ويحرسها احترام متبادل  .

“التعامل الإنساني مع المريض يعد جزءً لايتجزأ من العلاج” هذه المقولة خرجت إلينا من دهاليز الطب،وثبت فحواها علميا،إذ أن مراعاة المريض،والتعامل معه بلطف يسهم فعليا في عملية التعافي .

في الغالب يتعمد الأطباء تناسي الإنسانية،ويتنكروا للقسم الذي أدوه أثناء التخرج، خصوصا عندما يعايشون الضغط اليومي،وتكدّس المرضى على أبواب مشافيهم،حيث أن تزايد الضغط عليهم يدفعهم لتفريغ شحناتهم السلبيّة على مرضاهم بطريقة أو بأخرى،لكن الدكتور خالد،وقلة من أطباء اليمن ظلوا الاستثناء البارز ،ومارسوا الطب بإنسانية تخطت كل المعوقات،وبمهنية أزاحت وابلا من نظرات التشكيك في أخلاقيات المهنة،وفتحت نافذة أمل لآلاف المرضى في الحصول على الرعاية الطبية الغير منقوصة .

محاور كثيرة تستدعي المقارنة بين جيم أوكونيل،وخالد سهيل بصفتهما ينتميان لذات المهنة المقدسة،لكن لو قارنا بين الرجلين من حيث الجدارة،وانطلاق من بيئة العمل،والظروف المحيطة لكليهما،لوجدنا الأفضلية تصب في صالح الدكتور خالد سهيل،فهو رئيس هيئة لا يتسلم راتبا من الدولة،بل ينفق من جيبه في سبيل تطوير وارتقاء المشفى،لكن لا يعنى هذا أن على الدكتور خالد،أو غيره أن يعمل مجانا،فكل طبيب له أسرة،ولهذه الأسرة حاجات،،والراتب حق مكفول لكل صاحب مهنة يواجه به تكاليف الحياة،لكن على الطبيب أن يدرك أن مهنته مقدسة،وبيده بعد الله إزالة آلام الناس،وهذه القيمة العظيمة لاتقاس إطلاقا بالمقابل المادي،وهذا مايؤمن به الدكتور خالد وقلة قليلة من رجالات الطب في البلاد ممن مكنهم الله،وغمرهم بفيض عطائه،فشكروا،وتنازلوا عن جزء من حقوقهم لصالح من بهم خصاصة .

بالعودة إلى المقارنة بين أوكونيل الغرب،وأوكونيل اليمن،سنجد أن الأخير تحدى ظروف الحرب في المدينة،وغامر بحياته من أجل خدمة المرضى،ففي الوقت الذي كانت فيه المدينة مسرحا للعمليات العسكرية بين أطراف الصراع اليمني،أصر على إبقاء المشفى مفتوحا أمام المرضى،بل وشكل فريق طوارئ تحت إشرافه مباشرة،وظل مع فريقه داخل المشفى طوال فترة الحرب،بعيدين عن أسرهم،في موقف بطولي وإنساني مشرف،ليس بمقدور طبيب آخر أن يقدم عليه،وإن كان جيم أوكونيل الغرب نفسه  .

مع تعاظم الدور الذي لعبته هيئة مشفى الثورة تحت قيادة الرجل على المستوى المهني،والأخلاقي في البلاد،كان لزاما على المجتمع،والدولة  أن يعطيا الدكتور خالد حقه من التقدير،كشخصية تصدرت المشهدين الإنساني،والطبي،طوال فترة تربعه على هرم القيادة في مشفى الثورة العام بمحافظة الحديدة،وهو ماحدث بالفعل،إذ تحصل الدكتور على العديد من الجوائز،والأوسمة الفخرية،أبرزها درع وزارة الصحة العامة،ودرع جامعة العلوم والتكنولوجيا،ناهيك عن تصنيفه كأحد أبرز الشخصيات في البلاد خلال السنوات الأخيرة .

 

 

أخيرا إن الإرتقاء بمهنة الطب في اليمن عموما يلزمه كادر طبي بمواصفات الدكتورخالد سهيل،لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، كم خالد سهيل سنحتاج لتحقيق هذا الغرض ؟